مسرح

المطبخ.. جسد تحت الطلب وأحلام تطهى على نار هادئة


كتب أحمد علي تيتوس

في قلب قصر ثقافة الأنفوشي، حيث تصافحك رائحة حلقة السمك قبل أن تطأ قدمك مقعد المشاهدة قدمت الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن إطار التجارب النوعية عرضا يحمل اسم”المطبخ” لكنه يخفي خلفه وجبة درامية مشبعة بالتفاصيل والمرارة والإنسانية المقهورة.
نص محمد عادل النجار لا يسعى إلى الدهشة، بل إلى الحقيقة، تلك التي تُقال همسا في جلسات البوح، أو لا تُقال أبدا. تأخذنا الحكاية إلى عالم امرأة لا ترى في نفسها سوى “أداة” زوجة لا تعترض، لا تبكي، لا تفرح، تقبل بفتاة ليل تشاركها منزل الزوجية بل تبارك العلاقة بين زوجها، لا لأنها مجنونة كما قد يتبادر إلى الذهن بل لأنها منكسرة بعمق امرأة فقدت إحساسها بجسدها منذ زمن بعيد.
أحمد علاء علي، مخرج العرض. لم ينجر خلف البهرجة، بل اختار أن يقول كل شيء بلا صراخ. صاغ المشاهد بوعي درامي ناضج، ووضع ممثليه في مواقف تفضح خبايا أرواحهم لا كلماتهم فقط. مشاهد الصمت هنا توازي في قوتها ضجيج الخيبات.

الزوجة: كبرياء منكسر وذاكرة بلا ملجأ
جسدت جيسكا هاني دور الزوجة ببراعة لافتة. أداؤها أقرب إلى المرايا المكسورة، كل زاوية فيها تعكس ألما مختلفا. لا تستجدي الشفقة، ولا تلوح بالدموع، هى فقط تمضي في حياة تصر فيها على طهو الطعام الذي لا تأكله، من أجل رجل لا يحبها، لكنها في صراع داخلي، ربما لا تملك سوى أن تكون بهذا الشكل لتنجو من الارتداد إلى بيت الأب، ذلك الجحيم الأصلي الذي شكلها.
الزوج، الذي أداه إسلام شوقي بتمكن واضح، كائن أناني متطلب، لا يرى في الحياة سوى مرآته الخاصة. يكاد يكون تمثاله الذكوري المتحرك، لا يسمع ولا ينصت، فقط يريد ويأمر ويتحرك في الفراغ.
أما محمد علي زيكا في دور الأخ فكان جرعة كوميديا سوداء، لا يملك حلا ولا يحمل مسؤولية، لكنه يمر بخفة الظل وتردده ليكشف لنا أن البيت لم يكن مأوى بقدر ما كان فخا مفتوحا على اتساعه.
ندى جمال قدمت دور فتاة الليل بخفة ظل ناعمة، بعيدة كل البعد عن الابتذال، وكأنها جاءت لتقول للزوجة إن هناك حياة أخرى ممكنة. لم تكن مجرد عنصر درامي إضافي، بل أيقونة انقلاب في مسار الشخصية المحورية. لحظة صداقة غريبة تنشأ بين الطرفين، كأن كل واحدة فيهما ترى في الأخرى احتمالا آخر لما يمكن أن تكونه.

السينوغرافيا بيت له آذان وأرواح لها كيان.

 أخذنا إلى شقة تتقاطع أبوابها كما تتقاطع المصائر. باب الخروج يقابل باب غرفة النوم، كأن الرحيل دائما على مرمى خطوة من الحميمية الغائبة. المطبخ والحمام وجهان لماء واحد! إما يغسلك أو يغرقك.
أما الجمهور، فجلس تحت الشرائط المتدلية وكأنه جدار من جدران البيت. فكرة بسيطة حولت المتفرج إلى شاهد أخرس على التفاصيل تماما كما أراد المخرج: أن نكون “الحيطان اللي ليها ودان”، لكن أحمد علاء جعلنا “حيطان ليها كيان”، نرى ونفكر ونحكم.

نهاية مفتوحة.. لحياة مغلقة

الزوجة تغادر المنزل في المشهد الأخير، لا تحمل شئ سوا إرادتها نحو المجهول، ربما إلى ضوء، ربما إلى هاوية أخرى. لكن المؤكد أنها لن تعود كما كانت. النهاية ليست صدمة بل تحصيل حاصل استكمال لمسار بدأ من زمن بعيد في بيت أب كان أول من شوه صورة الجسد عندها.
“المطبخ” ليس مجرد عرض مسرحي، بل وجبة إنسانية كاملة الدسم. طبق من الألم المصفى، يقدم على نار درامية هادئة، دون افتعال أو مباشرة.

من قلب التجريب خرج العرض، لكنه استقر في وجدان المتفرج مثل حقيقة يعرفها ولا يجرؤ على مواجهتها: أن كثيرا من النساء هن “جسد تحت الطلب” وأن المطبخ ليس دوما مكانا للحياة، بل في بعض الأحيان.. مكان للنجاة من الموت.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى