ثقافة و أدب

تامر محمد موسى يكتب: الدكتور طه حسين بين النشأة والمكتسبات


د. تامر محمد موسى



كثيرا ما استوقفني ولفت انتباهي وتفكيري ذلك الاحتفاء الكبير الذي طالما أحاط بشخصية الراحل الدكتور طه حسين رحمه الله، وكان السؤال الكبير الذي طرحته على نفسي مراراً وتكراراً هو:
ما هو السبب الذي جعل أغلب المثقفين و الأدباء العرب يحتفون بالدكتور طه حسين هذا الاحتفاء الكبير، بل و يضعونه في مكانة مرموقة كعميد للأدب العربي المعاصر، على الرغم من أنه قد عاش في عصر امتاز بوجود العديد من الأدباء الكبار ذوي الإنتاج الذي قد يفوق ما أنتجه الدكتور طه حسين غزارة ويضاهيه عمقا فصاحة لغوية، فقد عاصر الدكتور طه حسين العديد من الكتاب الكبار مثل عباس محمود العقاد وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وغيرهم الكثير، وعلى الرغم من ذلك نجد أن مظاهر التقدير والاهتمام بالمنتج الثقافي والفكري الخاص بالدكتور طه حسين تحمل طابعا خاصا، فلا أنسى أنني قد اطلعت على لقاء تليفزيوني مسجل، كان الدكتور طه حسين هو الضيف الرئيس فيه، واجتمع فيه لمحاورته خمسة من أكبر أدباء عصرهم شهرة وأغزرهم إنتاجا يستمعون إليه وإلى آرائه كما يستمع الطلبة إلى استاذهم في مشهد أعتقد أنه نادر الحدوث عرفانا منهم بمكانته وقيمته، فما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟

أرى أن هناك مجموعة من الأسباب المتنوعة هي التي أدت إلى وضع الدكتور طه حسين في المكانة التي نعرفها جميعاً اليوم وتجعلنا نحتفي به وبمنتجه الثقافي والفكري، وهي أسباب متنوعة ومختلفة ومنها:

أولا.. النشأة والمجتمع المحيط
من المعروف أن الراحل الدكتور طه حسين قد ولد في نهايات القرن التاسع عشر عام 1889 في إحدى قرى محافظة المنيا بصعيد مصر، ليكون الابن الثالث عشر لهذه الأسرة!
وكانت النشأة المعتادة لأي طفل في هذه المرحلة تحتم عليه الانخراط في سلك التعليم القروي المتمثل فى نظام الكتاتيب، ولكن عائقا كبيرا واجه الطفل في هذه المرحلة، فطه حسين الذي ولد مبصرا كأي طفل فقد بصره وهو طفل حدث نتيجة علاج خاطيء لمرض ألمَ بعينيه، وكانت هذه هي أولى صداماته مع الجمود والجهل، فبدلا من اللجوء للعلم وأهله من الأطباء، لجأ الأهل إلى حلاق الصحة – طبيب القرية الأثير آنذاك – فقد الطفل بصره بدلا من أن يشفى، وكأن قدره يحتم عليه وهو في هذه السن أن يحيا حبيس ظلام البصر وصعوبة الحياة وسط هذه الأسرة الكبيرة العدد.
ولكني أرى أن هذه الضغوط الهائلة على طه حسين الطفل كانت هي الحافز الذي جعله الرجل الذي نحتفي به اليوم، فعلى الرغم من صغر السن وفقد البصر وصعوبة العيش، فقد تحدى طه ذلك كله ليتم حفظ القرآن الكريم في قريته ليمنحه ذلك تذكرة الخروج من مجتمع القرية الضيق إلى عاصمة القطر المصري ليلتحق بالجامع الأزهر الذي كان هو جامعة مصر الوحيدة آنذاك، ليبدأ صدامه الثاني مع مظاهر الجمود التي كانت منتشرة في ذلك الوقت.

فعند قدومه إلى القاهرة بصحبة أحد أشقائه الأكبر منه سنا، والذي كان قد سبقه إلى الأزهر دارسا فيه ومقيماً بأحد أحياء القاهرة الشعبية، اكتشف الطفل أن هناك عالماً جديداً يختلف عن قريته التي تركها تماما، فالقاهرة عاصمة القطر المصري وأكبر مدنه تموج بالبشر على اختلاف أنواعهم، والأزهر الذي جاءه دارسًا، بل والمسكن الذي نزله يضم مصريين من مختلف مدن القطر، فكان لزاما عليه أن يعتمد على ذكائه – الذي كان يملك منه الكثير – وعلى شقيقه الأكبر حتى يتمكن من العيش في هذا المجتمع المغاير لمسقط رأسه.

كانت الدراسة بالأزهر الشريف حينها تعتمد على أساليب قديمة للغاية في تدريس العلوم الشرعية والتي كانت هي النوعية الوحيدة من العلوم التي تدرس هناك في تلك الفترة، وكان طه حسين من ذلك النوع الذي لا يستسيغ تلك الأساليب ولا يحبها، فأدى به ذلك، بالإضافة إلى القسوة التي كان يتميز بها بعض ممن درس على يديهم في الأزهر – بلغ الأمر ببعضهم إلى نعته بألفاظ كالأعمى وما أشبه ذلك – أدى إلى شعور طه حسين بصعوبة كبيرة في تفهم تلك العلوم وتقبلها، وأرى أن ذلك الذي أدى به فيما بعد إلى دراسة الآداب بدلا عن العلوم الشرعية وهو ذات السبب الذي جعل العديد ممن احتك بهم من طلبة الأزهر يتخذون نهجاً سلوكيا وخلقيا في حياتهم لا يتفق مع ما تعلموه في أروقة الأزهر، فقد كان توجههم إلى العلوم الشرعية اضطرارا اجتماعيا لا يد لهم فيه، وقد روى الدكتور طه حسين بنفسه بعضا من الاحداث وتحدث عن مجموعة من الأشخاص الذين التفاهم ممن أيدوا في ذهنه هذه الفكرة وذلك في كتابه الشهير “الأيام” الذي حوى سيرته الذاتية عن تلك المرحلة وما يليها.

ثانيا.. التكوين الفكري والثقافي
كان الدكتور طه حسين من المنتصرين بكل ما أوتي من قوة للغة العربية الفصيحة، فقد كان العصر الذي شهد تألقه الثقافي والفكري عصرا يتميز بالانفتاح الأدبي والسعي إلى بث روح التجديد في المنتج الثقافي العربي، فظهرت العديد من المدارس الأدبية الحديثة في الشعر والأدب، بل وظهرت توجهات ومطالبات داخل المجتمع اللغوي والثقافي في ذلك الحين تنادي بتجنيب اللغة العربية الفصحى واعتماد اللهجات العامية العربية كلغات أدبية وثقافية، ولكن طه حسين كان لهذه الدعوات بالمرصاد، فقد كانت له فلسفة واضحة تبين سبب رفضه لتلك المطالبات، وهي أن المثقفين وأهل العربية إذا اعتمدوا على اللهجات المحلية كلغة للثقافة والأدب، فسوف يأتي اليوم الذي يعجز فيه المصري عن فهم السوداني ولا يدرك اليمني ما يريده المغربي، فالعربية الفصحى كانت في نظر الدكتور طه حسين هي الملاذ الأخير الذي قد يضطر أهل الضاد إلى اللجوء إليه يوما ما حتى لا تذوب هويتهم وتنسحق تماما، وربما كانت النشأة الاجتماعية والعلمية التي عاشها طه حسين في صغره – على الرغم من كونها لم تشبع ميوله ولا اختياراته – كانت هي السبب في ذلك الرأي الصارم، فوالده ذو التعليم الازهري وكتَاب القرية الذي عاش جانبا من طفولته بين جدرانه، والجامع الأزهر الذي وفد إليه دارسا، كل أولئك كانت العربية الفصحى بالنسبة إليهم ركنا لا يتزحزح من تكوينهم الفكري الذي انعكس بدوره على الراحل الكبير.

وعلى جانب آخر، قد يبدو للبعض مناقضا لكل ما سبق ذكره عن تكوين الدكتور طه حسين الفكري، فإن الراحل كان من المطلعين النهمين على الثقافة الغربية على وجه العموم، وعلى الثقافة اللاتينية والفرنسية على وجه الخصوص، ولم يكن الانفتاح على تلك الثقافات من الأمور المستغربة في ذلك الحين، فقد كانت البعثات التعليمية المصرية في مختلف مجالات العلم والأدب منتظمة التوافد إلى فرنسا منذ عهد محمد علي باشا، واستمر الحال على هذا المنوال خلال حكم الأسرة العلوية، فلم يكن من المستغرب أن يكون طه حسين واحداً من أولئك المبتعثين، ومرة أخرى يجد نفسه في مواجهة القوى الصدامية التي ترغب في تكبيل أحلامه وطموحاته، ولكن روحه كانت قتالية بما يكفي حتى يتجاوز تلك العقبات، ليجد نفسه مرة أخرى في مجتمع جديد تماما، لكنه مجتمع يلائم شخصيته إلى حد كبير.

فالثقافة الغربية على وجه العموم في تلك الفترة، بل وقبلها بما يزيد على قرن من الزمان كانت قد اتخذت منحى جديدا كان الهدف الرئيس منه هو التحرر من جميع القيود التي فرضتها القوى الحاكمة باختلاف أنواعها على الفكر والثقافة الأوروبيين طيلة قرون، فأخذ عدد لا يستهان به من مثقفي أوروبا وعلمائها على عاتقهم مهمة تحرير فكر وتوجهات شعوبهم بشكل كامل، فانطلقوا في جميع الميادين العلمية والثقافية باحثين و(متشككين) أيضا، فصدرت الموسوعة بأجزائها في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر الميلاديين حاملة كما هائلا من المعلومات في مجالات كالأحياء والطبيعية وغيرها، ولكن ذلك النهج المتشكك وجد ميدانا خصباً في القضايا الفكرية والدينية أيضاً، فكانت النتيجة التي حتمتها السيطرة الكنسية الهائلة طيلة قرون سبقت ذلك العهد المتحرر هي الرفض شبه المطلق لكل ما حمله العقل الغربي في مجالات الفكر والدين طيلة قرون، والسعي لبناء فكر وتوجه جديدين يعتمدان كليا على العقل وعلى وضع كل شيء تحت مجهر المراجعة والبحث والشك.

عندما خاض الدكتور طه حسين ذلك العالم الجديد، وجد نفسه وسط تلك الأمواج العاتية من الفكر الجديد عليه كليا، وكان من الطبيعي أن يتأثر به ولو بقدر يسير، ولكن تأثره كان في أسلوب التفكير فقط، ما يعني أنه قرر أن يتعلم لغة أو لغات تلك الثقافة المنفتحة ليفهم ما تسعى إليه وتستند إليه، وأن يتخذ من فكرتها ومبدئها القائلين بضرورة إخضاع كل منتج فكري أو ثقافي أو علمي للبحث والتمحيص، ولكن دون أن ينجرف هو نفسه مع تلك الثقافة ولا أن يتنكر لثقافته ولغته العربيتان، الأمر الذي حدث للكثيرين الذين سبقوه إلى نفس الخطوات التي قطعها على الأراضي الفرنسية.

وذلك المزيج يبدو للبعض ولي شخصياً أمر صعب التحقيق، فكيف يتمكن رجل في مثل ظروفه الشخصية والتكوينية – جسديا وثقافيا – من الأخذ من هذا الرأي وذاك التوجه والمزج بينهما في نفس الوقت، إلا أنني أعتقد أن هذا هو ما منح شخصية الدكتور طه حسين ذلك التفرد الذي جعلنا نضعه في المكانة والموضع الذين تحدثنا عنهما.

ولكن مما لا شك فيه فإن تلك المعطيات التي كونت شخصية الدكتور طه حسين وثقافته كانت هي الدافع الرئيس وراء ما جعل الناس يطلقون عليه لقب (عميد الأدب العربي)، وسنحاول أن نستكنه جانبا من شخصية الدكتور طه حسين من خلال مؤلفاته ومواقفه التي تبدو فيها شخصيته واضحة جلية كما هي في كتاباته.

فإن الباحث في تراث الدكتور طه حسين الثقافي والفكري ومسيرته الأدببة سيجد نفسه أمام شخصية فذة بلا جدال، فالرجل قد تمرد على الخط الممنهج الذي سار عليه أغلب سابقين وأقرانه، فعندما لم يجد ما يوافق فكره وشخصيته في التعليم الديني الأزهري، ووجد أن أبواب الجامعة المصرية التي كانت أهلية في تلك الفترة مفتوحة أمامه – مع بعض المتاعب التقليدية بكل تأكيد – ليدرس الأدب العربي الذي ملك عليه تفكيره فإنه لم يتردد في اتخاذ تلك الخطوة ليصبح من الدارسين في تلك الجامعة الناشئة ثم من أساتذتها المعدودين بمعونة مجموعة من قيادات الحكومة والجامعة الذين كانوا يقدرون العلم وأهله ويعرفون له حقه وأهميته وعلى رأسهم الزعيم الوطني سعد باشا زغلول وأحمد علوي باشا وغيرهما.

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر الذي يرتبط بالمنتج الفكري للدكتور طه حسين، فإننا نجد أن الرجل كان متفردا في تفكيره، جريئا في طرحه للقضايا التي يتناولها، متنوعا في إنتاجه الأدبي والثقافي.

إن الناظر إلى مؤلفات الدكتور طه حسين قد يخيل إليه للوهلة الأولى أن الرجل متمرد بصورة مطلقة على الإرث الثقافي الذي تركه الأقدمون، وكل من يتبنى هذا الرأي يتخذ من كتابه الشهير “في الأدب الجاهلي” ذريعة أساسية لتأييد هذا الرأي.

ولكن القارئ المدقق لكتاب “في الادب الجاهلي” سيجد أن الأمر ليس بالصورة السطحية التي يتصورها البعض، فإن كل ما ركز عليه الدكتور طه حسين في كتابه هو وضع الموروث الشعري و النثري العربي الذي نسبه الناس إلى أدباء العربية في فترة ما قبل الإسلام تحت مجهر البحث والتدقيق والتشكك الأدبي واللغوي والتاريخي معا، رغبة منه في الوصول إلى الحقيقة أو إلى أقرب سبل الحقيقة، وكان ما خلص إليه من هذا البحث هو أن الكثير من الشعر الذي ينسب إلى مرحلة ماقبل الإسلام – بما فيه الكثير من شعر المعلقات، فخر التراث الشعري العربي في نظر الكثيرين- هو شعر تم تأليفه في فترات لاحقة على ظهور الإسلام وبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأغراض متنوعة منها السياسية والقبلية والدينية.

لقد حمل الكثيرون على طه حسين وعلى كتابه السالف الذكر، واعتبروا موقفه الطاعن في نسبة الشعر المعروف بالشعر الجاهلي إلى عصر ما قبل الإسلام طعنا في القران الكريم وبلاغته التي جاءت متحدية فصاحة العرب، فإن كان الشعر الجاهلي ليس جاهليا، إذن فالعرب لم يكونوا فصحاء بما يكفي ليأتي القران الكريم ليكونوا على قدر التحدي الذي أتى به القرآن الكريم، ومن هنا لا تصبح المعجزة البلاغية القرآنية تحمل نفس القيمة والمعنى الذي حملته طيلة قرون طويلة.

ولقد تطورت هذه الحملة على الدكتور طه حسين حتى وصلت إلى ساحات القضاء، ولكنها انتهت إلى تبرئته من هذه التهم التي كانت من الممكن أن تلصق به تهماً يرفضها أي إنسان مسلم.

لقد كانت نظرة الدكتور طه حسين للشعر والنثر الجاهليين من جانب، وإلى القرآن الكريم من جانب آخر نظرة مختلفة، خلص بعدها إلى قناعة تامة بأن النص القرآني المقدس هو نص معجز، ليس لأنه تحدى الفصحاء من شعراء الجاهلية، بل لأنه نص جاء بفصاحة ورقي لغويين لم يعهدهما العرب من قبل، فوقفوا أمامه عاجزين عن مجاراة أساليبه وبيانه، وهذه هي المعجزة القرآنية.

لا أظن أن هذه الرؤية التي طرحها الدكتور طه حسين رحمه الله في كتابه “في الأدب الجاهلي” تنتقص من قدر القران الكريم في شيء، لكن المشكلة الحقيقية في ظني هي إخضاع النص الأدبي المنسوب إلى ما قبل الإسلام والنص القرآني كليهما إلى قواعد بحث وتمحيص وضعها مفكرون ينتمون إلى ثقافة غير الثقافة الإسلامية، بالإضافة إلى أن وضع النص القرآني في موضع مقارنة أو المساس بالثوابت التي وضعها مفكرون سابقون لبيان البلاغة القرآنية هي ما أثارت حفيظة كثير من الناس.

الجانب الآخر الذي أخذه البعض على الدكتور طه حسين هو أنه وضع بعض الأشخاص الذين يملكون مكانة مرموقة وخاصة في الفكر الإسلامي في مواضع اتهام لا تليق بهم، كما فعل في كتابه “مرآة الإسلام” الذي أفرد نصفه الأول للحديث عن المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية وبيان سامحتها وعدلها، ثم تناول في الجزء الثاني من كتابه دراسة جانب من السيرة النبوية وفترة ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ملقيًا الضوء على فترة الفتنة الكبرى ومقتل الخليفة عثمان ابن عفان رضي الله عنه وصراع الخليفة الرابع علي ابن ابي طالب رضي الله عنه مع الخوارج وغيرهم من خصومه في تلك الفترة المضطربة، فنجده يميل بوضوح إلى تبني وجهة نظر علي ابن ابي طالب رضي الله – كما حدث أيضا في كتابه علي وبنوه – بل ويتجاوز ذلك إلى إلقاء تهم يراها الكثيرون لا تليق لتصيب أشخاصا ذوي مكانة كبيرة في الفكر الإسلامي مثل الصحابي عبدالله ابن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عم علي ابن ابي طالب أيضا.

المشكلة في هذا الطرح والتناول لأدوار الأشخاص من صانعي التاريخ والاحداث أنه يستقي معلوماته من مصادر تاريخية معينة، ككتاب “نهج البلاغة” الذي نُسب إلى علي رضي الله عنه– دون أن يملك أحد القدرة على تأكيد ذلك أو نفيه، وهنا تكمن المشكلات، فإن العديد من المصادر والمراجع التاريخية التي اشتهر محتواها وتداول بين الناس لا تتوخى الدقة والتمحيص المطلوبان لأمثالهما، بل تتحكم في مصنفيها ومؤلفيها أفكار وأهواء قد تحيد بهم عن جادة الصواب، والناظر الباحث في المراجع والكتب التاريخية سيجد العديد من الأحداث التي قد يتناقض تناولها بين مؤلف وآخر تناقضاً صارخاً، ولن يكون من العدل ولا من المنطق عندها أن أتبنى رؤية ما للأمور ترمي أشخاصاً ذوي فضل أقر به أغلب الباحثين سيرا على نهج من الصعب قبوله ولا الأخذ به.

هل يعني هذا أن الدكتور طه حسين رحمه الله كان بعيداً عن قيم الإسلام كما يحلو للبعض أن يردد – قديما وحديثا؟
أقولها باقتناع تام – لا – فالرجل وإن كان قد تمرد على التقليد واتبع أسلوبا بحثيا تجديديا قد يراه البعض لا يتسق مع ثقافتنا العربية والإسلامية، إلا أنه كان مشبعا بحب العربية والإسلام، فقد تعمق في اللغة العربية الفصحى إلى الحد الذي جعله يعرف من خفاياها وغريبها ما جعله يقول مخاطبا ابنته أنه سيترجم لها نصوص أبي العلاء المعري – الذي كان يكن له تقديرا خاصا، ربما لتشابه ظروفهما إلى حد ما – إلى لغة عربية تفهمها ابنته ويفهمها المعاصرون البعيدين عن اللغة العميقة التي يكتب بها أمثال أبي العلاء وقد ورد ذكر تلك الواقعة في مذكرات صهره الدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر الأسبق.

وبلغ به التشبع بحب الإسلام أنه عندما دعي إلى إلقاء كلمة في مؤتمر الحضارة والسلام الذي انعقد في فلورنسا الإيطالية سنة ١٩٥٣ ختم كلمته بدعاء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – ترجمه إلى الفرنسية – تفيض معانيه بالتصديق واليقين والإيمان بالله، قاله وهو الخطيب المفوه ذو اللسان البليغ والمنطق السلس في العربية والفرنسية كليهما.

وألَف كتابه الشهير “على هامش السيرة” متناولا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم منذ نشأته، ومنوها إلى مواقفه وصموده في سبيل الدعوة إلى الله طيلة عمر الدعوة النبوية إلى الإسلام وألف كتاب “الشيخان” متناولا سيرة الصحابيان الكبيران أبي بكر الصديق وعمر ابن الخطاب.
لقد كان طه حسين متنوعا في إنتاجه الأدبي والثقافي، فكما ألف كتب النقد الأدبي والتاريخي، فقد كان له نصيب لا ينكر من ألوان الأدب الأخرى، فقد كتب في أدب السيرة الذاتية كتابه الشهير “الأيام”، و”الشيخان” في مجال السيرة الغيرية وألَف في مجال الرواية الاجتماعية رائعته “دعاء الكروان”، و(الحب الضائع) وفي التربية ألف كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” وغيرها الكثير.

لقد جمع طه حسين هذا كله بجانب المسئولية العلمية والثقافية، ففي الوقت الذي كان يخوض فيه معاركه الفكرية والأدبية، كان يخوض أيضا معاركه السياسية والإدارية، فقد تولى الدكتور طه حسين العديد من المناصب القيادية في الجامعة، فبعد أن تولى منصب عمادة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) سنة ١٩٢٨ و١٩٣٠ أصبح وزيرا للمعارف (التربية والتعليم) ١٩٥٠، وهو بين هذه المناصب، وفي خلال تلك السنوات الطويلة يخوض ألوانا من الصراعات السياسية مع الحكم الملكي وحكوماته، ومع خصومه الفكريين والأدبيين، بل ومع بعض طلبة الجامعة ذاتهم، كان فيها كلها هو نفسه، الثابت الجأش دوما، الذي حولته نشأته منذ نعومة أظفاره وصولا إلى شيخوخته إلى كيان ثابت لا يسهل تغييره ولا تبديله.
رحم الله الدكتور طه حسين..


المصادر
مرآة الإسلام، طه حسين، دار المعارف بمصر،١٩٥٩
قطوف من مذكرات د/ محمد حسن الزيات، سمير فرج، دار الفكر الحديث، مصر،١٩٩٣
في الأدب الجاهلي، طه حسين، مؤسسة هنداوي، مصر، ٢٠١٤





مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى