مسرحية “فزّاعات”: رحلة فلسفية في مواجهة العدم والاغتراب

كتب: محمد فاضل القباني
في فضاء المسرح، حيث تتحول الكلمات إلى صور، والأفكار إلى أجساد نابضة بالحياة، جاء عرض “فزّاعات” ليشكل تجربة فنية وفلسفية تتجاوز حدود الترفيه إلى منطقة التأمل الوجودي. نص صالح زمانان، المليء بالأسئلة الماورائية والهواجس الإنسانية، وجد في رؤية المخرج صبحي يوسف الجسر الذي عبر به من الورق إلى الخشبة، ليولد أمامنا عالم متكامل يثير الرهبة والدهشة معاً. هذا العرض ليس مجرد مشهد مسرحي، بل حالة فكرية تستدعي المتلقي لمساءلة ذاته والعالم من حوله، ليغدو المسرح هنا مرآةً للإنسان في لحظاته الأكثر هشاشة وتيهًا.
النص كمنبع فلسفي وشعري
صالح زمانان لا يكتب نصاً مسرحياً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يزرع حقلاً من الأسئلة، ويترك للمشاهد أن يحصد ما يشاء من دلالات. “فزّاعات” ليست مجرد شخصيات على خشبة، بل استعارات وجودية تجسد خوف الإنسان من العدم، محاولته اليائسة لصناعة معنى في عالم يزداد فراغاً. النص مكتوب بروح شعرية، توازن بين كثافة اللغة وعمق الصورة، بحيث يشعر القارئ أو المشاهد أنه أمام قصيدة مسرحية كبرى.
في “فزّاعات” تتحول اللغة إلى أداة مقاومة. كل جملة تنطوي على أكثر من معنى، كل حوار يحمل أكثر من احتمال. وهذا التعدد اللغوي يفتح النص على تأويلات لا نهائية، فيجد فيه الفيلسوف مرآة لأسئلته، ويجد فيه المتفرج العادي صدىً لقلقه اليومي. وهنا تكمن قوة التأليف: أنه لا يعرض قضية جاهزة، بل يخلق فضاءً مفتوحاً للأسئلة.
زمانان يبرع أيضاً في رسم شخصياته بوصفها كائنات رمزية. الفزّاعة، في المعنى الظاهر، مجرد دمية توضع في الحقول لتخيف الطيور. لكنها في النص تتحول إلى استعارة كبرى للإنسان الذي خُلق ليخيف الآخرين بينما هو ذاته هشّ من الداخل. إنها صورة للوجود الممزق بين القوة الظاهرية والفراغ الداخلي، بين الرغبة في الهيمنة والشعور العميق بالهشاشة.
الإخراج كرؤية بصرية ووجودية
لو كان النص وحده كافياً، لظل حبيس الأوراق. لكن المخرج صبحي يوسف امتلك الشجاعة والخيال لتحويل هذا الحقل اللغوي إلى مشهد بصري متكامل. رؤيته الإخراجية لا تكتفي بترجمة النص، بل تحاوره، تناقشه، وتعيد خلقه من جديد. يوسف يدرك أن النصوص الفلسفية قد تنفر الجمهور إن لم تجد جسراً بصرياً وسمعياً، لذلك لجأ إلى تكوينات مسرحية تُشبه اللوحات التشكيلية، حيث تتجاور الحركة مع الصمت، والإضاءة مع الظلمة، لتولّد معاني متراكبة.
الإخراج هنا لم يكن محايداً، بل انحاز إلى فكرة النص الجوهرية: الاغتراب الإنساني. صبحي يوسف جعل الخشبة فضاءً مفتوحاً يتناوب فيه الضوء والعتمة كرمزين للوعي واللاوعي، للحضور والغياب. تحركات الممثلين بدت أحياناً ميكانيكية، كما لو كانوا فزّاعات تتحرك بخيوط خفية، وأحياناً أخرى انطلقت بعنفوان جسدي يشي بالرغبة في الانعتاق من قيد الجمود. هذه المفارقة البصرية عمّقت إحساس المتلقي بأن ما يشاهده ليس مجرد عرض، بل صراع وجودي.
يوسف أيضاً منح النص بُعداً تشكيلياً، حيث تعامل مع الكتلة المكانية كلوحة تتغير باستمرار. المشاهد لم يكن مجرد متلقٍ، بل بدا كمن يسير في معرض فني يتبدل أمام عينيه في كل لحظة. وهنا يظهر تفرّد المخرج: القدرة على جعل المسرح فناً بصرياً وفكرياً في آن واحد.
السينوغرافيا كلغة موازية
السينوغرافيا في “فزّاعات” لم تكن زينة خارجية، بل نصاً بصرياً موازياً للنص المكتوب. الأزياء جاءت بألوان باهتة تميل إلى التراب والرماد، كأنها تعكس هشاشة الكائنات التي ترتديها. الإضاءة لعبت دوراً دراماتورجياً، فهي لا تكشف فقط، بل تكتب بلغة الضوء، فتارةً تعزل شخصية في بقعة ضوء كأنها تُحاكم أمام مرآة داخلية، وتارةً تغمر الخشبة في ظلام يوحي بالعدم الذي يتربص بالكل.
أما الموسيقى، فقد بدت كصوت داخلي للعرض. لم تكن مجرد خلفية، بل قوة خفية تشد المشاهد نحو أعماق النص. الأصوات الموحية بالصمت، الإيقاعات المتقطعة، كل ذلك ساهم في خلق جو من القلق الوجودي الذي يتناغم مع النص والإخراج.
الأداء التمثيلي بين الرمزية والواقعية
الممثلون في “فزّاعات” أدوا أدوارهم بوعي عميق بالبعد الرمزي للشخصيات. لم يحاولوا تقديم أداء واقعي بحت، بل اشتغلوا على لغة الجسد والنبرة والإيقاع لتجسيد ما هو أبعد من الشخصية الفردية. كل ممثل بدا كأنه يعبّر عن فكرة أو حالة وجودية أكثر من كونه شخصية لها ملامح حياتية محددة. هذا التوجه منح العرض طابعاً تجريدياً، لكنه ظل محتفظاً بالحرارة الإنسانية التي تمنع العرض من الانزلاق إلى الجفاف الفلسفي.
المسرح كفعل مقاومة
“فزّاعات” لا تكتفي بتقديم نص وإخراج متميزين، بل تطرح سؤالاً أكبر: ما جدوى المسرح في عالم يزداد عزلة؟ الجواب يأتي من خلال التجربة ذاتها. المسرح هنا يتحول إلى فعل مقاومة ضد العدم، ضد الاغتراب، ضد تحوّل الإنسان إلى مجرد فزّاعة خاوية. العرض يذكّرنا بأن الفن ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية، لأنه وحده القادر على منح المعنى وسط العبث.
خاتمة
في النهاية، يمكن القول إن “فزّاعات” هو عرض يليق بأن يُكتب عنه كواحد من العلامات المسرحية التي تتجاوز حدود اللحظة. نص صالح زمانان منحنا تجربة فكرية وشعرية في آن واحد، بينما قدّم صبحي يوسف رؤية إخراجية حوّلت النص إلى مشهد حي يتنفس ويثير الأسئلة. تضافرت السينوغرافيا، الموسيقى، والأداء التمثيلي لتشكّل معاً كياناً فنياً متماسكاً.
هذا العرض يثبت أن المسرح لا يزال قادراً على أن يكون فلسفة حيّة، وأن يفتح نوافذ جديدة للتفكير والتأمل. “فزّاعات” ليست مجرد مسرحية تُشاهد ثم تُنسى، بل هي تجربة تُعاش، تظل تسكن المتلقي بعد انتهاء العرض، كصوت داخلي يسأله: ما الذي يجعلنا بشراً، وما الذي يجعلنا فزّاعات؟