19 أكتوبر، 2025

لا صفح بعد الدم: فاطمة الهواري.. لا تصالح.


كتب: أحمد محمد علي

اللعبة المسرحية بين الذاكرة والواقع على خشبة السامر

يشكل عرض “فاطمة الهواري – لا تصالح” الذي قُدم ضمن فعاليات مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة نموذجا متميزا لتقاطع المسرح مع قضايا الذاكرة والهوية، إذ ينهض العرض على استعادة جرح شخصي – مأساة فاطمة الهواري ابنة قرية ترشيحا في الجليل، التي قصفت عام ١٩٤٨ – ليتحول هذا الجرح من تجربة فردية إلى خطاب مسرحي جماعي يواجه النسيان ويقاوم محاولات المحو التاريخي.
الحبكة الدرامية تستند إلى واقعة تاريخية موثقة، حين قصد الطيار الإسرائيلي “آبي ناثان” في بداية التسعينات منزل فاطمة بعد مرور نصف قرن على قصف قريتها طالبا الصفح. غير أن المعالجة المسرحية لم تتوقف عند حدود الاعتراف الشخصي، فقد كشفت هشاشة هذا الاعتراف أمام حجم الجريمة الجمعية. فالسؤال الوجودي الذي ينهض به العرض: هل يمكن للاعتذار المتأخر أن يمحو الدم؟ المخرج غنام غنام أعاد تركيب هذه المواجهة عبر بناء مشهدي يزاوج بين المادة الوثائقية والبداية الشعرية المستلهمة من قصائد محمود درويش ومروان مخول، ليؤسس خطابا فنيا يؤكد أن الذاكرة الفلسطينية لا تُصالح.

البنية الدرامية وتقنيات التغريب

اختار المخرج آليات التغريب البريختي وسيلة لخلخلة الإيهام المسرحي؛ إذ قدم الممثلون للجمهور منذ البداية بوعي مسرحي مباشر، مما أبقى المتلقي في موقع الناقد المتأمل، لا المستسلم لعاطفة الميلودراما. توزع السرد بين مستويات زمنية متقاطعة: فاطمة الشابة/ فاطمة العجوز، لحظة القصف/ لحظة المواجهة، بما أوجد إيقاعا داخليا متوترا حافظ على طابع المقاومة. أما السينوغرافيا التي أعدها د. علي السوداني فجاءت شبكة من العلامات البصرية المكثفة: الكرسي المتحرك بوصفه رمزا لاستمرار الجرح، الطاولة المفروشة والمطرزات الفلسطينية دلالة على البيت المفقود، الكوفيات المعلقة علامة على الهوية الجمعية، والشموع كجدلية بين الحداد والأمل. هذه العناصر أسهمت في إنتاج خطاب بصري موازٍ للنص الكلامي. تتكامل مع الموسيقى (ماهر الحلو) والإضاءة (ماهر الجريان) ليُنتج فضاء سمعيا بصريا كثيفا، تجاوز حدود المرافقة التقنية إلى المشاركة في صياغة البنية الدلالية للعرض.
كما قدمت أماني بعلج شخصية فاطمة بجسديها، الشاب والهرم، في توازن دقيق بين طاقة الصوت وانضباط الحركة، لتجعل من الجسد المقعد جسدا مقاوما نابضا بالحياة. أما أحمد العمري فقد أتقن تجسيد مفارقة الجلاد والقريب عبر تنويع جسدي وصوتي لافت، سواء في دور الطيار أو في دور ابن الأخ الراعي. في حين جسد غنام غنام شخصية الحبيب رمزي بوصفه “الطيف الحاضر”، بما يعكس استمرارية الشهادة في الذاكرة الشعبية.
النص المسرحي تنقل بين التوثيق والفرجة، إذ لم تُعرض الوقائع كوثيقة تقريرية، فقد جرى دماجها في صور مكثفة، ما منح العرض بعدا ملحميا حافظ على يقظة المتلقي الفكرية. الإيقاع اللغوي تأسس على الخطاب المباشر والتأمل، ليبقى المتلقي في مواجهة مستمرة مع السؤال المركزي: كيف تُكتب العدالة في غياب الصفح؟

حضور العرض ضمن مهرجان إيزيس لمسرح المرأة أضاف بعدا نوعيا، إذ لم تكن فاطمة صورة للمرأة الضحية، قُدمت بوصفها فاعلا تاريخيا يقاوم ويعيد كتابة ذاكرته. بذلك يلتقي خطاب العرض مع فلسفة المهرجان التي تركز على المرأة بوصفها محركا للتاريخ والمقاومة، لا تابعا أو ظلا.
يُعيد عرض “فاطمة الهواري – لا تصالح” تأكيد فكرة راسخة. الدم لا يسقط بالتقادم، والذاكرة ليست موضوعا للتفاوض. ففي اللحظة التي تصرخ فيها فاطمة على الخشبة: “قتلتني مرتين، مرة بجسدي ومرة بذاكرتي، ولا صفح بعد الدم”، يتحول المسرح ذاته إلى وثيقة حية للمقاومة، وإلى فعل تاريخي يعيد تثبيت الذاكرة الجمعية بوصفها شرطا للوجود والعدالة معا.

About The Author