مقالات

محمد عبد الرحمن يكتب: “الطوق والأسورة” مأساة الإنسان في عالم تحكمه الخرافة


محمد عبد الرحمن زغلول
محمد عبد الرحمن زغلول

 

في عالم من الفانتازيا السحرية بشكلها التراجيدي المستمدّ من واقع حقيقي، كتب القاص الراحل يحيى الطاهر عبد الله روايته القصيرة «الطوق والأسورة»، وبصورة حيوية لا تخلو من شاعرية تعبر عن آلام وبساطة الناس هناك في أقصى الجنوب، ومن نفس السردية قدم المخرج خيري بشارة فيلمه الذي يحمل نفس الاسم، في إطار من الواقعية السحرية الأقرب إلى سير الحكي الشعبية، المليء بالأشجان والممزوج بالمواويل والأهازيج الشعبية.

قدم خيري بشارة، فيلم «الطوق والأسورة» عام 1986، وساعده في كتابة السيناريو يحيي عزمي، بينما تكفل الخال عبد الرحمن الأبنودي صديق «يحيى الطاهر عبد الله» المقرب، بكتابة الحوار كاملا، ليقدموا لنا تراجيديا ملحمية تجسد هموم المهمشين والفقراء الهاربين من واقعهم الضيق القاس إلى رحابة عالم الأساطير والخرافات، فهم يعيشون من نسيج الأسطورة الذي يصنعونها، ولا يرغبون في تغيير قيمهم الموروثة والتي تنافي المدنية والعلم والتحضر.

في معالجته للفيلم التزم خيري بشارة إلى حد كبير بالحبكة الدرامية التي وضعها «يحيى الطاهر» في روايته، إلا أنه أضفى أبعادًا أخرى تخدم فكرته الدرامية، واحتفظ العمل بالشخصيات الأساسية والثانوية التي وضعها يحيى الطاهر، إلا أنه غير أسماء بعض الشخصيات منها «نبوية» التي أصبحت «فرحانة» في الفيلم، وأعطى مساحة أكبر لبعضها، لكنه استفاد أيضا من قصصًا أخرى كتبها يحيى الطاهر نفسه، منها قصة «طاحونة الشيخ موسى» والتي استمد منها الخيط الدرامي لشخصية منصور التاجر (أحمد بدير) الذي أراد أن يبني طاحونة في القرية، ولكن أهل القرية قاموا بالاعتراض عليه، ورجموه بالحجارة، اعتقادًا في خرافة تقول إن الطواحين لا تدار إلا بتقديم قرابين بشرية، أطفال يذبحون وتسيل دماؤهم، فتدور ماكينة الطاحونة، وهو الخيط الذي تكامل مع عالم القرية التي تحكمها الخرافة كما في النص الأصلي.

يحكي الفيلم عن ثلاثة أجيال الآباء (بخيت وحزينة) والأبناء (فهيمة ومصطفى) والأحفاد (فرحانة)، في تجسيد لديمومة الحياة واستمراريتها، وعزز خيري بشارة من هذا التصور حينما أسند دور الأب والأبن معا للعلايلي، بينما أسند دور الأبنة والحفيدة لشيريهان، في رؤية واضحة أن ثمّة شيء لا يتبدل في حياة الناس أو يتطوّر، بينما الجهل مقيم ومستقر وسائد في الحياة التراجيدية الجمعية، وكأننا في عالم «سيزيفي» كالذي كتبه ألبير كامو عن «أسطورة سيزيف» ودلالتها الرمزية والفلسفية حول ذلك الروتين اليومي الذي نعيشه وتلك الأعمال التي نكررها كل يوم دون غاية تذكر أو هدف نصل إليه؟، حول الإنسان الذي يختار التسليم إلى الأساطير والإيمان بها، ما قد يلغي عقله أو كينونته، ولذلك كان الاسم «الطوق والأسورة» وكأن الإنسان يظل مكبّلاً بالأصفاد والأطواق، محاصرًا بفقرٍ مدقعٍ وخرافات معششة في الوجدان.

بشكل عام استخدم خيري بشارة الخرافة المتجذرة في الوعي الجمعي ليسقطها على مفاهيم أخرى، فالعجز الجنسي لدي «الحداد» لم يكن سوى صورة من صور عجز الإنسان الكلي وقلة حيلته أمام وتيرة الحياة المتسارعة في عصر الحضارة، كذلك رفض للناس للطحونة وكأنه تجسيدا لرفض الناس للعلم ومظاهر التقدم، بينما اعتقادهم في أهل الكرامات هو العرف السائد حتّى النخاع، كذلك قضايا مثل الفقر والعوز، وعدم القدرة على مواجهة ضغوطات الحياة، وتحكم فئة صغيرة من المجتمع في المال مثل العمدة والتاجر، ربما حملت إسقاطًا على الرأسمالية وتحكمها في مصائر الناس، وفي هذا الإطار لم يبتعد الفيلم كثيرًا في الاسقاط إلى الدوافع التي كانت سببًا في قيام ثورة يوليو، وكيف جاءت حركة الضباط الأحرار ليقوموا بشيء يعيد جزء من كرامة الإنسان المهان في زمن الاحتلال.

قدم خيري بشارة كذلك صورة بصرية أقرب إلى الدراما الوثائقية، مستفيدًا من خبراته السابقة كمخرج لأفلام وثائقية منها «حديث القرية» 1979، وكأنه ينقل إلينا جزء من واقع حقيقي ينقله لنا بعدسته الخاصة حتى في أبسط التفاصيل مثل مشاهد العُرس وطقوس الفرح والحزن ليجسد أجواء الخرافة والأوهام التي تحلق فوق الرؤوس وتكسر الحاجز بينها وبين المشاهد وتجعله ينسى أنه أمام فيلمًا سينمائيًا، ويتصور أنه أمام صورة حية لقرية الكرنك وقرى الجنوب البعيد.

وكعادته في أغلب أعماله حول خيري الجميع إلى مغنون، الكل عبر عن مشاعره بالغناء، واستطاع أن يجعل من كلمات الأبنودي، وأغاني محمد منير خيطً درامي يصعد ويهبط بالأحداث، وكأنها مسارًا درامي آخر يبني عليه أحداثه، في واقع يتماشى مع ما تمثله المواويل والعدودة في الوجدان الصعيدي كنسيج محفور في الذاكرة وشريط درامي جاهز دائما للتعبير عن الحياة.

هكذا رسم خيري بشارة حكايته في صورة يكسوها الموت والحزن، معبرًا عن الجهل المقيم والاعتقاد السائد بالخرافة، عن الإنسان المستسلم لمشيئات قاهرة ليس بإمكانه التحرر منها، وفي إطار ملحمي تراجيدي يعبر عن مأساة الإنسان التي يبدو فيها ترسا في آلة لا تتوقف، ولا يستطيع هو أن يتجاوز دوره، ولا يمكنه أن يخرج عن الحركة المحددة، متكئا في تجسيده أيضًا على مفاهيم فلسفية عن مأساة إنسان الحضارة، منها رؤية الفيلسوف العدمي «نيتشه» للإنسان المعاصر بأنه يعيش خاضعاً لعدمية مزدوجة، وهو ما يحط من قيمة حياته، من جهة، وتجعله من دون قيم ومن دون كينونة، في رمزية لا تبتعد كثيرا عن أفكار خيري التي كثيرًا ما ظهرت في أعماله حول تحول الإنسان المعاصر بفعل الحداثة والعولمة إلى آلة جامدة بدون مشاعر أو عاطفة.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى