محمد عبد القادر يكتب: عابر سبيل.. الرؤية بين الفكرة والتنفيذ
الإبداع في صورته الأولى هو خلق من العدم لوسيط يحمل فكرة سواء كان هذا الوسيط مقروء أو آدائي أو بصري أو مسموع أو مزيج بينهم، ومن أكبر المعضلات التي تواجه المبدع هي كيفية صياغة الفكرة باستخدام المادة وتحويلها لشكل معبر، والأفكار في بدايتها دائما بسيطة ولكن التعقيد يكمن في عمليات تحويلها من مجرد فكرة لعمل فني أو أدبي، وفي المسرح والسينما تتشابك الفنون في أكثر من صورة بغاية التعبير عن فكرة واحدة أصلية، كل فن منهم يدعم الآخر ولكن بطريقته الخاصة.
وفي فيلم الكيت كات من سيناريو وحوار وإخراد داود عبد السيد كانت الموسيقى التصويرية (بسكاليا) للفنان راجح داود خير مثال على الوحدة الفكرية والفنية، والشكل الموسيقي بسكاليا أصل تسميته الاسباني مشتق من: Pasar يمشي – Calle الطريق، قطعة موسيقية ظهرت لأول مرة في بداية القرن ال17 في اسبانيا، ، وبلورها الملحن الإيطالي (جيرولامو فريسكوبالدي) واستمرت في التطور حتى تحولت لتيمة أو شكر موسيقي، فكتب كبار الملحنين قطعا موسيقية بنفس الاسم ” بسكاليا”، منهم مثلاً جون سيباستيان باخ، وجون باخلبل، ورالف ڤون ويليامز وهاندل وهالڤورسين اللذان كتباها للتشلو والكمان رغم أن كل من سبقوهم اختاروا الأورجن، وصولا للعبقري المصري (راجح داود) الذي قرر استخدام تلك القطعة الأثيرة ويقوم بتحويلها من قطعة غربية كلاسيكية لموسيقى في حي شعبي مصري، ويلعب فيها مزيج من الات لا يتصور الخيال الجامح إمكانية تجانسها، تخيل العود ممزوجا بالأورجن في قطعة موسيقية كتبت بالأساس لكمان وتشيللو، ولكن عبقرية داود جعلت كل شئ ممكنا.
قد لا نصدق -إذا سمعنا القطعة الأصلية- أن بينها وبين موسيقى فيلم الكيت كات اي تشابه، ربما تشعر فقط ب (أنا سمعت المزيكا دي قبل كده).
إذا ما هو سبب اختيار هذه القطعة بالذات؟
مالك الحزين هي رواية (ابراهيم اصلان) -التي أخذ عنها داود عبد السيد فيلمه “الكيت كات”- وتلك هي المرة الوحيدة التي يكتب فيها فنان ذاتي مثل داود عبد السيد عن عمل أدبي وليس سيناريو أصلي ، بالطبع اختار عبد السيد خطوطه الخاصة وبنى درامته التي لها من الخصوصية ما يخرج عن الرواية وربما يخالفها ولكن لابد من الوقوف عند اختياره لرواية اصلان.
بداية من اسم الرواية:
مالك الحزين هو طائر يعيش حول البحيرات والمستنقعات ويظل ملازما لموطنه حتى يموت وفي حالة جفاف البحيرة أو المستنقع يظل جالسا في مكانه مطأطئ الرأس وحزين حتى الموت ولكنه أبدا لا يغادر. بطل الفيلم الشيخ حسني عاش حياته غارسا جذوره في طين الكيت كات، وحتى بعد تغير شكل الحي أصر على البقاء فيه ويعارض فكرة رحيل ابنه يوسف عن البحيرة. لقد حكى داود عبد السيد جنازة كبيرة، كأنه يقول لنا : إن حياتك هي جنازتك اللي بتبدأ مع ولادتك وبتنتهي بدفنك، والطريق بين النقطتين جنازتك التي لابد وأن تعيشها على قدر ما تستطيع، وبسكاليا تعني كما اتفقنا عابر الطريق أو بلفظ اقرب عابر السبيل، والأورجن في الموسيقى يغلف الفيلم بإحساس كنسي جنائزي كأنه يتفق معنا من بداية الفيلم أننا في جنازة، جنازة طويلة نسبيا، رحلة نمشيها اغراب. في الجنازة كلنا أغراب. لقد انطلق راجح داود من فكرة صاغها في شكل يعبر عنها وداعما لرؤية الفيلم عموما، ولم يغرد منفردا مستقلا عن الهدف الأسمى من العمل ككل، وهو ما يفسر دائما الفارق بين المبدع صاحب الوعي والثقافة الواسعة الذي يدرك القيم الفكرية والجمالية للفن مازجا بينهما دون تحيز لقيمة على الأخرى، لذلك في كل لحظات الفيلم كنا نرى في كل شخصية في الفيلم عابر سبيل.
محمد عبد القادر – معيد بقسم المسرح كلية الآداب – جامعة الإسكندرية