الكاتب مجدي محفوظ يكتب: خلف جدران قريتنا؟
وجع ألم بي حينما قررت الاغتراب بعيداً عنها وعن شموخها وعراقتها وأصالتها حين قررت حزم امتعتي استعداداً للسفر، خرجت من منزلنا في انتظار السيارة المتوجهة للمدينة للمرة الأولي، وصوت مؤذن مسجد النصر يهز كياني مودعاً رحلتي الطويلة، ونظراتي من شباك السيارة على كل شيء في القرية وكأني أودعه، المنازل، الناس، الشجر، وحين وصلنا (للشيخ منصور، وكانت إشارة بانتهاء مباني قريتنا) انقبض قلبي وتأوهت الماً بداخلي وازداد وجعي، وضوضاء بذاكراتي وكأن صخب المدينة يطبق على قلبي،يؤرق أنفاسي وذاكرتي تستشرف تلك العودة البعيدة، قلت في نفسي: سأعود يوماً ما؟ فلا بد أن اعايش حلم العودة، وتذكرت ليالي الشتاء الدافئة في بلدتي حين نجلس بجوار بائع القصب وهو يشعل النهار ليلاً فيتوافد الساهرون من حوله كل منهم يمسك بعود من القصب وكأنه يشدو لحن لعبد الوهاب، واستجمعت مخيلتي كل شيء ودموعي تتناثر أحاول أخبيء وجهي من الناس، لأعود متذكراً ترابها استنشق منه الحنين، رغم أني كنت اسخر من الاتربة وهي تتعلق بثيابي وقدمي، الأن أحاول التماس أثارها من على ثيابي وقدمي لعل انعم برائحتها. فصخب المدن يؤرقني شوارع مزدحمة بالمارة لا يوجد ذاك الصفاء وتلك الأنغام الجميلة التي كنت استمع اليها من ذاك المذياع الكبير في درانا والمشدود بسلك طويل وفي نهايته طبق من الألمونيوم ليعلو صوته وينقيه من تلك الذبذبات والوصول الي الموجات القصيرة، كنا نردد الاغاني والبرامج الاذاعية والاستمتاع بهنا القاهرة؟ ومسلسل الخامسة عصراً ونحن نحتسي شاي العصاري في ممشي بيت خالتي عن الثلاثية ونجيب محفوظ ويوسف إدريس والحكيم وكل منا لقب بشخصية تناسبه من هؤلاء العظام.
في المدينة لا يشدو المذياع بهؤلاء ولا توجد تلك اللمة وشاي العصاري لا توجد تلك الحميمية ولا ذاك الحب بيننا والنظرات تبعث الراحة والحنان فيما بيننا، وحين ينادي مسعود بائع (العسلية) تحضر لنا خالتي الحلوى ونتقاسمها فيما بيننا ونشرب الماء البارد من أواني فخارية تنبض برائحة الطين المحروق بلونها الجميل، في المدينة يا خالتي لا نعرف أحد نخرج من سكننا للدراسة ثم نعود نعد الطعام، نذاكر ثم ننام لنذهب في اليوم الثاني للدراسة نفس الرحلة اليومية، صخب المدينة يؤرقنا، فلا صوت بائع حلوي يجلل المكان ولا مئذنة مسجد النصر ترفع الآذان بصوت (الشيخ ثابت) حين نذهب للمسجد ونحن في سجال بين الدخول وعدمه ثم نُحذر من العبث في المسجد وبمفروشاته، كنت لا أفكر الا في يوم العودة، اعيش على آماله العريضة انسج الحكايات التقي ببائع الجرائد والذي يقوم بمهمة كبيرة وهي تبادل الجرائد بين القراء والحفاظ عليها، (شعبان، عبد التواب) علامة مميزة في موقف بلدتنا كأنهما شخص وأحد هما عينا المكان للغرباء الذين يأتون لقريتنا للسؤال عن شيء ما أو حتي منزل شخص فيقوم أحدهما بتوصيلة للمكان وملامح السعادة تبدو واضحة عليهم رغم التقطها من جوف الشقا، سأعود الي قريتي الي قيد فرح طفولتي بين اسوار مدرستها العتيقة والحذر كل الحذر ان تفعل شيء خارج نطاق الأدب بالمدرسة فـ(عمك محمد) يحملك بين يدية لتضرب ضرباً مبرحاً أو لأننا نهتم بواجبتنا المدرسية، صوت الناظر يجلل المكان لمنع الضوضاء في الصفوف فلا معلم؟ لكن الصمت سيد الموقف، يشتد الخوف وتهرب الفرحة وتكاد عيوننا أن تدمع للاستعداد لحصة الرياضات والضرب المبرح إذا أخطاء أحد في رقم ما ف (الأستاذ سليم) لك بالمرصاد صباحاً قبل الدراسة وبعدها لنتعلم الرياضيات.
عمر مضي حاولنا أن نقبض فيه على أحلامنا أن نصنع الضحكات ونختلس اللحظات الجميلة نبحث عن نوافذ للأمل نجاري الذكريات بين الاغتراب والحنين الي تراب قريتنا (دلجا) نكافح سنوات الهزيمة بين فج الغياب وصخب المدن والشوق الي الحنين ننتظر ابتهالات السماء نخبئ أنفسنا من صقيع الشتاء فيا لا هشاشة الزمن واضغاث الاحلام.. رغم كل هذا ففي قريتنا كانت تصنع الابتسامات بين الناس تسع العالم أجمع بالحب، نبعد عن ذاك التيه الذي لاصق الناس، وحين عدت يوماً محمل بنسائم الأمل، واستقبلت المكان لا أحد أين الناس؟ لقد رحلوا! تغيرت المباني لم تعد تلك المئذنة ولا المكان ولا أحد ينظر حتى اليك الكل يحمل هاتفة ويبتسم ويتحاور وكأنك غريب أقدم على أناس لا تعرفهم، حاولت البحث عن كل شيء كان هنا، اشتد بي الحزن وصرخت يا وجع قريتي ويا لا صخب المدن، أخذت نفس عميق وقلت: أنتهي حلم السنين وابتعدت كثيراً فلا خطاب الا أنين الجدران، سأرجع ذات يوم محمولاً على الاكتاف بعدما مزقت الأيام أعمارنا، فقد حان الرحيل؟