محمد عبد الرحمن يكتب: “حرب الفراولة” البحث عن السعادة في واقع عبثي
السعادة عبارة عن فضائل الأخلاق والنفس؛ كالحكمة والشجاعة والعدالة والعفة، هكذا كان ينظر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون عن ماهية السعادة، لافتا أيضا إلى أن سعادة الفرد لا تكتمل إلا بمآل روحه إلى العالم الآخر، بينما كان تلميذه أرسطو يرى أن السعادة على أنّها هبة من الله وقسمها إلى خمسة أبعاد، وهي: الصحة، والثروة، العمل، وسلامة العقل، وحسن السيرة، هكذا يبدو دائما أن ثمة رؤى متفاوتة عن مفهوم السعادة، فأحيانًا هي القوة وأحيانًا هي الحرية، وأحيانًا هي الشجاعة، وأحيانًا هي القلق والمرض.
من هذا المنطلق يمكننا التعامل مع فيلم «حرب الفراولة» إنتاج عام 1994، للمخرج خيري بشارة، وبحثه عن السعادة وحلوله الواقعية عن ماهيتها ولكن في صورة سريالية وعبثية يجسد فيها طبيعة الحياة البشرية وغرائبيتها، وحاول فيه سبر أغوار النفس البشرية ورؤية كلا منا للسعادة وكيف تتوقف على طبيعة كلا منا النفسية وطبقته الاجتماعية ومستواه المعرفي والثقافي، في ملمح أيضا لا يبتعد فيه «بشارة» ومؤلف الفيلم مدحت العدل عن مفهومهما ورؤيتهما لتوغل الفكر الرأسمالي وسيطرته على كافة المفاهيم الإنسانية ونزعها من جوهره العاطفي إلى صورة جافة أكثر انانية.
دارت أحداث الفيلم في إطار فلسفي عبر طرح عدد من الأسئلة الوجودية عن السعادة، وهل هي في المغامرة (السرقة)، الحرية والخروج عن المألوف، أم في العودة إلى الطبيعة والابتعاد عن صخب الحياة المدنية، أم في الأمان أو الحب، هل هي في البساطة أم الثراء؛ حول رجل الأعمال ثابت (سامي العدل) الذي فقد ابنه في حادث غرق وانفصل عن زوجته، وأصبح يبحث عن مفهوم للسعادة بعدما فقد أقرب الناس إليه وأسباب السعادة من وجهة نظره، وفي هذه الأثناء يقابل حمامه (محمود حميدة) هذا «السريح» الفقير الذي يبحث عن المال من أجل اتمام زواجه من حبيبته «فردوس» أو «فراولة» (يسرا)، وهنا يجد ثابت في حمامة فرصته للوصول إلى السعادة المنشودة، ويعقد معه عقدا من أجل ذلك، والذي يلزم حمامة بالانصياع وراء ثابت من الفوز بمبلغ 100 ألف جنيه وشقة.
الفيلم منذ بدايته جاء متصاعد الأحداث وإن جاءت في شكلٍ سريالي، وفي إطار عبثي، فتارة نجد بطلي العمل ثابت وحمامة يسرقون بنكا هو مملوك في الأساس للأول، وتارة أخرى يرتدون ملابس نسائية ويدخلون سجن النساء، كنوع من أنواع الخروج عن المألوف والسائد وهل السعادة في أن يبحث الإنسان عن السعادة في صورًا أخرى غير الذي يألفها، أو في أنه يكسر القيود المفروضة عليه اجتماعيًا.
واتكأ خيري بشارة في تعامله مع الفيلم إلى عدد من الأساطير والاسقاطات الرمزية، فنجد في بداية العمل «حمامة» السريح الذي يبع التفاح على الرصيف في إشارة إلى إغواء ثابت لحمامة بالمال مقابل تحقيق رغباته فخسر حياته وحبيبته، تماما مثلما اغوى الشيطان بها أبو البشر فخرج من الجنة، كذلك لم تخلو أسماء أبطال الفيلم عن اسقاطات رمزية فنجد «حمامة» الطائر واللاهث وراء طموحاته البسيطة، تماما كصاحبه الذي يتحرك كثيرا ويتكلم أكثر، و«فردوس» جنة «حمامة» ومأواه الذي يجد فيها نفسه وأمانه وراحته، وربما أراد «بشارة» تصوير المرأة على أنها الجنة الأرضية وملاذ الإنسان وأمنه، و«ثابت» الذي لا يتحرك كثيرا وتكون حركته أيضا اعتمادا على حمامة.
الفيلم رغم ارتكازه الكبير على مفهوم السعادة والبحث عنها ولكنه ربما كان صورة أكثر واقعية عن تأثير الرأسمالية على العالم، وكيف يتحول العالم إلى مجتمع لا تحكمه قيم، ومحاكاة سريالية للواقع العبثي داخل المجتمعات الرأسمالية التي تحكمه قيم باردة مدمّرة للتماسك الاجتماعي، يحكمها عقود لا تعطي الحقوق إلا لطرف على حساب الآخر، مجتمع لا يعلو فيه سوى صوت «الأنا» والمصلحة الشخصية على مصلحة الجماعة، وينطبق عليه قول جان بول سارتر «الجحيم هو الآخرون» في إِشارة إلى ما يعيشه الإنسان في عصرنا الحالي، حيث أصبح المجتمع فاسداً في واقع شديد القسوة تسحق فيه الطبقات العليا ما يقبع تحتها من طبقات متوسطة أو ضعيفة، مثلما تصرف «ثابت» وقرر الزواج من «فراولة» حبيبة «حمامة» رغم ادراكه أنه ملاذه الوحيد الباقي.
خيري بشارة مثلما عودنا في كل أعماله تقريبا جعل الجميع مغنون في العمل، الجميع يعبر عن مشاعره بالغناء، «فردوس» التي تغني مع طفلها لتعبر عن بؤسها، وحمامة المنطلق يغني ليعبر عن أحلامه، بينما جاءت الأغاني والموسيقى في حياة «ثابت» في صور صلبة، ربما أراد منها «بشارة» تصوير الرأسمالية على أنها حولت الإنسان إلى آلات متحركة، مثلما يظهرن خادمات «ثابت» طوال الفيلم في صورك آلية صلبة.
في النهاية قدم خيري بشارة عبر صورة شبابية مليئة بالحركة والحيوية، كسمة أغلب أعماله، وطرحا يثير عددا من الأسئلة الفلسفية عن ماهية السعادة، وأكثر واقعية عن تجسيد العبثية التي تفرضها الرأسمالية على المفاهيم الإنسانية، متخذا صورة أكثر تحررا من مفاهيم أفلاطون وأرسطو نحو السعادة، وصورة أكثر عمقا عن «الأنا» في مفهوم سارتر لعالم ما بعد الحداثة.